کد مطلب:309791 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:270

القسمت 28


حان وقت الوفاء بالنذر... فلقد نهض الحسنان من فراش المرض.. وعادت إلی وجهیهما دماء العافیة، السماء تنتظر نذراً نذره الإنسان.. نذراً یقدمه إلی نفسه لیكون قریباً من عوالم مغمورة بالنور. لا شی ء فی منزل فاطمة.

انطلق علی إلی «شمعون» رجل من خیبر؛ رجل شهد انهیار حصون ملیئة بالسلاح.. بالذهب.. بالذكاء أمام رجل لا یملك سوی سیف وقلب تنطوی فی حنایاه النجوم.

و ها هو الیوم یأتی یطلب شیئاً عجیباً. انه یرید قرضاً.. ثلاثة أصواع من شعیر.. الرجل الذی اقتلع باب «القموص» و قهر خیبر.. جاء یطلب حفنة من شعیر... و امرأته بنت محمد... تملك أرض «فدك».

تمتم شمعون و قد هزّته المفاجأة:

- هذا هو الزهد الذی أخبرنا به موسی بن عمران فی التوراة!


طحنت فاطمة صاعاً.. الرحی تدور و «فضة» فتاة تعیش فی منزل فاطمة.. تجمع الدقیق.. صار الدقیق عجیناً.. ثم خمسة أقراص لكل صائم قرص شعیر.

النجم المهیب یهوی باتجاه المغیب.. یرسل أشعة الوداع یعلن عن نهایة یوم من حیاة الإنسان و الأرض. الأسرة الصائمة تتهیأ للافطار.. لقمة خبز تقیم أود الجسد الآدمی لیكمل رحلته باتجاه النور.

هتف انسان جائع:

- مسكین! اطعمونی أطعمكم اللَّه.

الصائم فی لحظة الافطار یدرك آلام الجوع عندما تتلوی المعدة خاویة تبحث عن شی ء تمضعه و إلّا مضغت نفسها.

قدم الصائمون خبزهم.. وأفطروا علی الماء.. و استأنفوا رحلة الجوع.. والجوع زاد المسافر فی ملكوت السماء... حیث تلال النور وبحیرات تزخر بالنجوم... الجوع یلجم الشیطان القابع فی الظلمات... یسحقه فاذا هو خائر كثور محطّم القرون.

ومرّ یوم آخر و الصائمون فی رحلة إلی اكتشاف ینابیع الحب الأزلی... و كلّ شی ء آیل إلی الزوال إلّا الحبّ... و الحبّ نداء اللَّه إلی النفوس البیضاء.

ومرّ یتیم... یالوعة الیتم فی ساعة الغروب. الكائنات تعود إلی


أوكارها و الطیور إلی أعشاشها والأطفال إلی أحضان زاخرة بالدف ء.

وفی ساعة الغروب تتجمع الدموع فی عیون الیتامی كسماوات مشحونة بالمطر... یتجمّع البكاء فی القلب.. و المرارة فی النفس.. فكیف اذا اجتمعت مع الجوع... و هل تتحمل نفوس الأطفال البرد و الجوع..

نادی الیتیم فی لحظة الغروب الحزین:

- أطعمونی... مما أطعمكم اللَّه.

هناك فی أعماق النفوس البیضاء كنوز من اللّذة أین منها لذائذ البطن... فكیف مع نفوس براها الجوع والنذر حتی عادت شفافة كالضیاء ساطعة كالنور..

لبی الصائمون نداء الیتیم.. فباتوا لیلتهم یطوون رحلة مضنیة تكاد تمزّق الجسد و تحیله إلی حطام.. حیث یشهد عالم الإنسان اللانهائی انتصار الملائكة و هزیمة الشیطان.. إلی الأبد.

السماء تراقب نفوساً فی الأرض تطوی مسافات الجوع وفاءً لنذرها.

وفی الیوم الثالث مرّ أسیر ینشد لقمة خبز أو تمیرات.

الأجساد ترتعش أمام أمواج الجوع.. العیون غائمة... والوجود یغمره ضباب و دخان و ریاحین النبوات تهتز.. تذبل أو تكاد، و النفوس تشتدّ نصوعاً والورود تضوّعاً.


فاطمة تزداد نحولاً. غارت عیناها.. وصوتها زاد وهناً علی وهن وهی قائمة تصلّی فی المحراب..

وفی منزل آخر الأنبیاء هبط جبریل یحمل هدیة السماء... سورة الإنسان و انها:

- بسم اللَّه الرحمن الرحیم.

هل أتی علی الإنسان حینٌ من الدهر لم یكن شیئاً مذكورا.

انا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتلیه فجعلناه سمیعاً بصیراً.

انا هدیناه السبیل امّا شاكراً و امّا كفورا.

انّا اعتدنا للكافرین سلاسل و اغلالاً و سعیرا.

إنّ الأبرار یشربون من كأسٍ كان مزاجها كافورا.

عیناً یشرب بها عباد اللَّه یفجّرونها تفجیرا.

یوفون بالنذر و یخافون یوماً كان شرّه مستطیرا.

و یطعمون الطعام علی حبّه مسكیناً و یتیماً و أسیرا.

انّما نطعمكم لوجه اللَّه لا نرید منكم جزاءً و لا شكورا.

انّا نخاف من ربّنا یوماً عبوساً قمطریرا.

فوقاهم اللَّه شرّ ذلك الیوم ولقاهم نضرةً و سرورا.

وجزاهم بما صبروا جنّة وحریرا...

انّ هذا كان لكم جزاءً و كان سعیكم مشكورا.


ورأت فاطمة فی تلك اللیلة ما لا عین رأت وسمعت ما لا أذن سمعت و لم یخطر علی قلب بشر.

رأت اشجاراً خضراء خضراء مدّت عروقها فی كثبان من المسك و كانت الأنهار الصافیة المتألقة تتكسّر امواجها عند جذوع الأشجار.. و نسائم تمرّ تلامس الأغصان فتصطفق الأوراق بصوت حالم.. وقد بدت كبائس اللؤلؤ الرطب فی ذری الأغصان... و تبدت الثمار فی غلف الأكمام... و قصور الزبرجد متناثرة هنا و هناك كالأحجار الملوّنة. ینابیع السلسبیل تتدفق... و أطفال كاللؤلؤ یحملون كؤوس الفضة ملأی بالعسل المصفی... یتألقون فی الظلال و فی الضیاء... فی ربیع دائم.. لا فیه شمس و لا زمهریر.

سادة القصور یرتدون ثیاباً من سندس أخضر و من استبرق.. فی أیدیهم كؤوس طافحة یستمتعون باحتساء شراب الزنجبیل. الوجوه طافحة بالسعادة الأبدیة.. وجوهٌ نظرة.. نحتها النسیم الربیعی المشبع بشذی الورود والأزهار الخالدة.

رأت فاطمة كلّ ذلك. ساحت بین تلال المسك و قصور الزبرجد.. غرقت فی بحیرات السعادة...

كادت تذوب شوقاً فهناك اللَّه.. و ما أحلی أن یجاور الإنسان مبدأ الانسان، و قد تحرّر تماماً من ویلات الأرض.